إدارة الانهيار
عوض بن حاسوم الدرمكي – صحيفة البيان الاماراتية
عندما كادت الإمبراطورية الرومانية تسقط أمام هنيبعل وجيشه القرطاجي الذي كان على تخوم عاصمتها روما، بعد أن اجتاح كل الممالك التي كانت في طريقه.
وذلك في ما يُعرَف بالحرب البونيقية الثانية، نجحت وبطريقة عبقرية في إيقاف مصيرها السيئ وقلب الطاولة، بإرسال وحدات عسكرية على وجه السرعة عبر البحر لمهاجمة قرطاج عاصمة هنيبعل، الأمر الذي أربك مُخططاته، وأجبره على التراجع سريعاً لإنقاذ مملكته!
لا يوجد ثابت في هذه الدنيا، فالكل متغيّر وعلى الدوام، وديناميكية الأحداث من حولنا في تسارع متزايد، ومن جهات مختلفة، حتى يبدو أن التخطيط السليم للقادم يبدو ضرباً من المحال.
وذاك هو ما عناه نسيم طالب في كتابه الشهير «البجعة السوداء»، ومن نظر لأحداث التاريخ نظرة متأنٍ خرج منه بدرسٍ مهم لا يغيب عن عاقل «واقعي»، بأنّ القوي لن يُسلِّم تاجه لغيره، وأن المحارب الجريح سيقاتل حتى آخر قطرة من دمه، وأنّ الأخلاق يتم دفنها فور اعتراضها لما يُهدِّد وجودية القوي!
الانحدار أو التآكل أو الانهيار يمر بجميع الكيانات البشرية مهما بلغت من القوة، وعندما يحصل يبدأ من قطاع معين، ثم يتّسع التأثير ليشمل بقية أوصال الكيان، ولئن كان هذا يعصف بالكيانات الهشة والدول الصغيرة بشكل متسارع وبإطار زمني متقارب، فإن الأمر يختلف مع الكبار لصلابة التجربة وقوة الأساس ونضج المؤسسات الرئيسية، إذ تحاول أولاً جاهدة إيقاف النزيف وتصويب الخطأ، فإن تعذَّر ذلك كان لزاماً أن تضع سيناريوهات عِدَّة لتأخير الانهيار قدر المستطاع، و«فَرْمَلة» السقوط لأبعد زمنٍ ممكن!
الزمن يُعلِّم الكبار أنّه لا كبير على السقوط إنْ أُهمِلَت بداياته، فتجاهل الخطأ لا يُلغيه، والتعامي عن المشكلة لا يحلّها، فالإمبراطورية الهنغارية النمساوية سقطت قبيل الحرب العالمية الأولى؛ لانهيار اقتصادها الذي بدأ بخسائر متتالية لأسواقها لم تُؤخذ بشكل جاد في البداية، والسقوط الدراماتيكي لأسعار النفط في منتصف ثمانينات القرن العشرين والإنفاق العسكري المرهِق جفّف شرايين الاقتصاد السوفييتي.
وأسهم في سرعة انهيار المعسكر الشرقي، بينما أحسنت أوروبا وأمريكا الشمالية في إدارة انهيار أسواق صناعات النسيج والحديد وبناء السفن والفحم في سبعينيات القرن الماضي، وخدمات رسائل البريد في بداية الألفية الثالثة، وأوجدت لنفسها مخارج ومجالات تفوّق جديدة.
بريطانيا أو الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، والتي لم يسلم من استعمارها سوى 22 دولة فقط، واحتلت ما يزيد على خمسة وثمانين بالمائة من مساحة الكرة الأرضية، حاولت جاهدة التحكم في سرعة انهيارها كدولة عظمى، وتَحسّباً لانتقام مستعمراتها القديمة اختلقت بُؤَر صراع حدودي بينها يشغل المستعمرات المستقلّة بها بعيداً عنها وعن أي مطالبات سياسية، أو تعويضات قد تضعف دورها السياسي أكثر، أو تُثقِل ميزانيتها بما لا قدرة لها عليه، بينما برزت فرنسا بقدرة أكبر على ممارسة الدور الاستعماري «من وراء حجاب»، وذلك من خلال ربط مستعمراتها الإفريقية اقتصادياً بها وبما يسمح باستمرار استنزافها بواسطة اتفاقيات استقلال مجحفة!
حالياً يبدو أنّ السكين قد بلغت العظم، والغرب «الأبيض» لا يكاد يخرج من مأزقٍ إلا ويدخل في آخر، ومعالم الأفق القادمة ليست في صالحه.
فالصين مُقبِلة لكي تأكل كل أخضر ويابس وما تحتهما أيضاً، ولم يمر في سجلات التاريخ أن أوروبا «وبطبيعة الحال امتدادها العرقي حالياً في الولايات المتحدة الأمريكية» قد رضيت بأن تكون على هامش الأحداث.
فكانت تستلهم من كل سقطة أو تعثّر أمام منافسيها الكُثُر والمختلفين على مر الزمان روحاً جديدة تُلَمْلِم فيه شتاتها، وتجعلها تعيد الكرة لفرض تفوق العنصر الأبيض من جديد، ولطالما نجحت في ذلك، وإن كان في أغلبه مسارات مليئة بالدماء والهمجية وإغراق الدنيا بالأكاذيب التي تُكرَّس «فرضاً لا طلباً» في مقررات المناهج الدراسية في شرق العالم وغربه، لتصوير الغرب بصورة الجنس المتمدن، ووَصْم خصومه بأبشع الصفات حتى لو كانوا يدافعون عن أوطانهم!
الوضع الاقتصادي منذر بالشؤم في أوروبا، وكذلك الحال وإن كان بصورة أقل في الولايات المتحدة الأمريكية، والبعض يراهن على سقوط مدوٍّ للقارة العجوز وربيبتها الكبرى واشنطن.
ولكن التاريخ يقول عكس ذلك، فذهنية التفوق وعقيدة علو الجنس الأبيض ليست فرضية أو مبالغة، بل هي المحرك الدائم للغرب، وهي عِماد تبريره لأفعاله من أجل استعادة مكانته التي لا يقبل التنازل عنها، لست متشائماً، لكنّ القادم في رأيي لا يحمل سوى عصر استعماري جديد!