الطيبون والنصل
عوض بن حاسوم الدرمكي – صحيفة البيان الإماراتية
أقف على مطل فندق يُشْرِف على مدينة طليطلة، ونهر تاجه يكاد أن يحيط بها من كل مكان، فيبدو حولها كخاتم يحميها من كل عدو أو غادر، بينما بقي ممر ضيّق ترتفع عنده الأسوار الصخرية والبوابات الحديدية العتيقة، هنا قبل قرابة ألف سنة كان ابن ذي النون يُذيع سِرّاً لِجُلسائه وهو يخبرهم أنّ الطريقة الوحيدة لانتزاع المدينة يكون بمحاصرتها سنتين كاملتين وإحراق حقولها المحيطة وقطع الإمدادات عنها حتى يُجبر الجوع أهلها على الاستسلام، أمّا محاولة اقتحام حصونها العالية واجتياز نهرها الكبير فهو ضرب من العبث!
كان متناوماً على مقربةٍ منه «صديقه» ألفونسو السادس والذي اختلف مع أبيه فلجأ إلى ابن ذي النون، وسمع ذاك السر الذي لم يكن يحلم أنه سيسمعه، وما لبث أنْ عاد إلى قشتالة بعد فترة، ثم جهّز الجيوش وحاصر مدينة «صديقه» الذي أكرم ضيافته وأحرق حقولها وضيّق عليها حتى استسلمت وكانت أكبر مصيبة حلّت بالأندلس حينئذٍ!
عندما تختلط الأوراق على الإنسان، فيضع العدو في موضع الصديق، والمتّهم في مكان الموثوق، فإن جميع حساباته اللاحقة ستكون كارثية، مهما ادّعى أنّه منتبه ومهما حاول مغالطة المتعارف عليه بأن الخير والشر باقيان ما بقي الخلق، وبأنّ الغرب لن يرضى عن العرب والمسلمين إلا إذا كانوا تابعين لهم، وأحداث التاريخ ووقائع الحاضر وملامح المستقبل لا تخرج عن هذا السياق، وإنْ كان ذاك لا يعني إطلاقاً أن لا نتعايش مع غيرنا في سلام وتناغم وتعاون ما داموا يبادلوننا نفس الأمر.
يدعوني للتنبيه على خطورة المبالغة في الاستئناس بالغرب ذاك الإغراق المفاجئ لكتب المستشرقين: القديم منهم والمعاصر، وكتب أتباعهم من أبناء جلدتنا والمحسوبين علينا والذين تُفْرَد لهم الصفحات وتُطبَع لهم الكتب ويتسنّمون مقاعد يصوّرهم الإعلام فيها كأقطاب الفكر وملهمي العصر، ويتشدّقون في كل مكان بكلمات معلبة ومصطلحات لا يستطيعون الفكاك منها والتي تحاول تصويرهم كمفكّرين فعلاً!
أساتذتهم المستشرقون بدءاً من جولد تسيهر وشاخت ونولدكه وفولهاوسن وبروكلمان ومرجليوث ومونتغمري وايرفنغ وأضرابهم لم يتركوا كتاباً من كتب المسلمين إلا وأشبعوه بحثاً وتقليباً، ليس حباً فينا أو رغبةً في إظهار عظمة الحضارة الإسلامية، ولكن مرادهم أساساً – مهما دافع عنهم مائعو الفكر والهوية – هو إيجاد مطاعن يمكن تسليط الضوء عليها واتخاذها مدخلاً لمهاجمة الإسلام ومحاولة تشكيك أبنائه بغياب أو «تغييب» أخطاء أو نواحي قصور وعجز في دينهم لم يتم تنبيههم إليه وذلك بسبب فساد الكثير من الساسة أو «الاستثراء» غير السوي للكثير من رجال الدين!
إنّ الكثير من المستشرقين كانوا طيلة وجودهم وخلال كل أعمالهم نصلاً في صدر الإسلام، ومعولاً يهدم صاحبه كل ما يجد وهو يرسم على وجهه ابتسامة حتى يُقنِع الطرف الذي يتم مهاجمة عقيدته وتاريخه بأنّه صديق ناصح يخشى عليه أن يضيع عمره كما ضاع عمر أجداده – الذين أقاموا أعظم حضارة إنسانية عرفها البشر – هباءً منثوراً، لذلك لن تجد حديثاً أو مقالة أو كتاباً لأي ملحد أو أي مهاجم للإسلام أو أي تابع لهم من أبناء جلدتنا إلا وهو يستند على أباطيلهم وشبهاتهم ويستميت في تلميعها والدفاع عنها!
أتباع الكثير من المستشرقين لا يملكون فكراً مستقلاً، ولا طرحاً يتقبّل المناقشة، ولا تتسع صدورهم أبداً لتغيير قناعاتهم إن نُقِضَت الشبهات التي يروجونها من أساسها، فالتراجع يعني الهزيمة، وتغيير القناعة يعني أنهم ناقصو الكفاءة وقاصرو المعرفة، وهذا مدعاة لسقوطهم من أعين الناس، لذلك قد يتغيّر الشيطان الأكبر جولد تسيهر ولكن لا تحلم أبداً بأن يتغيّر أحد اتباعهم من أبناء جلدتنا!
أنا مع حرية الفكر ولكن بما لا يتجاوز الثوابت وبما لا يتجاوز الخطوط الحمراء ويبدأ في الطعن في عقيدة الأمة ويحاول تمييع هويتها، فالأمّة دون عقيدة لا تستطيع الوقوف في مواجهة تحديات الزمن، والأمة التي تفرّط بهويتها وخصوصيتها وتهين نفسها بابتلاع غُصص أكاذيب أعدائها في حقها لكي تبدو أنها أمّة منفتحة ومسالمة، مع خصم غير مسالم أبداً ما دام يستهدفها في صميمها، لن تمر الأيام حتى تجد نفسها تضرب أخماساً في أسداس كما فعل ابن ذي النون عندما وثق بألفونسو السادس!