القوى العقلية والنفسية
د. محمد النغيمش – صحيفة البيان الإماراتية
تذكرت ما تفعله إحدى المضيفات الجوية عند باب الطائرة، عندما قرأت أمس خبراً مفاده أن السلطات الكورية الجنوبية قد كشفت دوافع إقدام أحد ركاب الخطوط الجوية «آسيانا» على فتح باب الطائرة بينما كانت تحلق على ارتفاع 213 متراً فوق سطح الأرض قبل أن تهبط بسلام في مطار «دايجو» الدولي يوم الجمعة الماضي.
ما حدث أن الراكب قد اعترف خلال التحقيقات بأنه قد تعرض لضغوطات حياتية شديدة بعد أن خسر وظيفته أخيراً، ولم يشفع له ذلك العذر، حيث وجهت إليه مذكرة اعتقال لانتهاكه قانون أمن الطيران وتعريضه حياة 194 شخصاً للخطر. وقد هبطت الطائرة بأمان، لكن 12 راكباً نقلوا إلى المستشفى بسبب نوبة فزع وصعوبات في التنفس، حسبما ذكرت تقارير إعلامية.
هذه الحادثة ذكرتني بما أخبرني به قبطان إحدى الطائرات عندما سألته لماذا يوجد دوماً مضيف عند باب الطائرة يوجهك إلى مقعدك وكأنه في الواقع يتأمل محياك؟ فقال إن كل طاقم الطائرة موكل بمهمات عدة، وإن تلك المضيفة أو المضيف يحاول تنظيم عملية صعود الطائرة، فضلاً عن تدارك الوضع إذا ما رأى راكباً بحالة غير طبيعية، فيمكنه تحديد الكرسي، ومن ثم اتخاذ الإجراء المطلوب. في بعض الأحيان، لا يحتاج الأمر أي تصرف سوى أن يخبر المضيف زميله بسلوك غريب ربما يتطور لاحقاً بعد الإقلاع.
التحدي الذي يواجه كل من يعمل في مجالات الخدمات والاحتكاك بالناس هو أن البشر يصعب أن تتنبأ بسلوكياتهم من خلال حجزهم تذكرة سفر أو مسرحية أو حتى التقدم لوظيفة شاغرة؛ ولذا كان لا بد من مقابلة واحتكاك، وربما تحدٍّ، ففي بعض المقابلات الاحترافية يتعمد المسؤولون أداء دور الشرطي الوديع good cop والشرطي السيئ bad cop، كأن يحاول الطرف الذي يمثل دور السيئ أن يستفز المرشح لوظيفة خدمة عملاء مثلاً، كأن يتجاهله وهو يتحدث، أو يحدق مثلاً في سقف الغرفة، أو ينشغل بالهاتف في تصرف يتعمد فيه أن يفقد أعصابه ليروا ردود أفعاله. وقد أخبرني أحدهم أنه تعمد تأخير مرشح لوظيفة لنحو ساعة وهو يرى تصرفه عبر الكاميرا الداخلية ما إذا قد «خرج عن طوره»، وماذا قال للسكرتير، وكيف كانت ردة فعله بعدما وصل المدير إلى مكتبه. وتمارس تلك الأفعال كبرى الشركات لأسباب؛ منها ما سبق، ومنها محاولة اكتشاف القوى العقلية والحالة النفسية.
في الكويت، مثلاً، أخبرني أحد المسؤولين في قسم رخص قيادة السيارة أن هناك خانة في طلب الإجازة (غير فحص النظر)، وهي التأكد من قواك العقلية والأعراض النفسية، لكن الشائع عند الناس أن من أكمل 18 عاماً يجري فحص نظر، لكنه فحص أشمل للتأكد من أنك بحالة طبيعية. وإذا ما لوحظ أن هناك مشكلة نفسية يتم تحويله إلى الجهات المختصة أو مستشفى الطب النفسي لتشخيص الحالة.
عندما تتأمل الأمراض أو الأعراض النفسية، تذهل من تنوعها، فكثير من الناس الطبيعيين جداً ظاهرياً، وربما مبدعين ومتفانين في أعمالهم، لكنهم قد يتعرضون لأمراض أو نوبات نفسية، كالاكتئاب، أو تشتت الانتباه، أو عسر القراءة، أو الصرع المفاجئ، أو الانهيار لحظة لرؤية الدماء الحمراء. هناك أيضاً من يعاني من الاضطراب الثنائي القطب وفرط الحركة. ليست مهمتنا التنقيب في سلوكيات الناس، لكننا من المفترض أن نقدم دورات في بيئات العمل على كيفية التعامل مع الأشخاص الذين يعانون من تلك الأمور.
التحدي الذي يواجه المسؤولين والموظفين أن تلك الأعراض أو الأمراض قد لا تبدو مستمرة كأعراض الاكتئاب التي تظهر فجأة أو الضغوطات النفسية، لكنها تتطلب فهماً شاملاً لطبيعة هذه الأمور عبر دورات تدريبية إلزامية، وكذلك الحال مع الموظفين الذين يحتكون بالجمهور؛ وذلك لكي يحسن الجميع التعامل مع الموقف واكتساب مهارات مهمة في عالم مليء بالضغوطات والتحديات وتنوع الأمراض النفسية.