(جميل) لشيخة الاحبابي .. قصة التسامح والتعايش
محمد حسن الحربي – صحيفة البيان الإماراتية
قد يأخذنا المقال قليلاً عن العمل الماتع في أدب اليافعين، قصة (جميل) للكاتبة الإماراتية شيخة الأحبابي من دبي، للحديث عن تاريخ انطلاق الموجة الجديدة من أدب اليافعين؛ وهي المرحلة العمرية من 13 عاماً فما فوق. بدأت الموجة الجديدة قبل 12 عاماً مضت، بالتحديد عام 2005، حين صدور رواية (الملجأ) للكاتبة اللبنانية سماح إدريس. ومذاك وجدت الأعمال الأدبية جيدة الصنع أدبياً، طريقها إلى واجهات متاجر بيع الكتب والمكتبات العامة، ليُدرج بعضها لاحقاً في المناهج المدرسيّة.
وتجدر الإشارة قبل هذا، إلى أنه في العام 2013 شهد أدب اليافعين دفعة أخرى تعجيزية قوية جسدتها (جائزة أفضل كتابٍ لليافعين) مصدرها الأم كان (جائزة اتصالات لكِتاب الأطفال واليافعين) بدولة الإمارات. ومن ضمن الفائزات بها الكاتبة الإماراتية نورة النومان، حيث جاء ترتيبها الأول، عن روايتها (أجوان) الصادرة عام 2012، أي قبل انطلاق الجائزة بعام واحد، يتحدث مضمونها عن كائنة فضائية استطاعت النجاة من دمار استهدف عالمها. ورواية أجوان لنورة هي باكورة أعمالها في ثلاثية شهيرة لها في أدب الخيال العلمي أو أدب الفانتازيا كما أُطلق عليه. لكن هل هنالك عوامل ساعدت على فتح الشهية للأدب اليافعي في دولة الإمارات والوطن العربي؟ يبدو ذلك.
فهنالك من المهتمين من يعزوا الشهية المفتوحة للكتابة لليافعين في العالم العربي إلى روايات (هاري بوتر) للبريطانية (جوان كي رولينغ) التي عرفها العالم عبر سلسة من الروايات الخيالية التي تصدّرت قائمة أفضل المبيعات، حيث بيع منها قرابة 400 مليون نسخة حول العالم، وذلك قبل أن تتحول إلى أفلام سينمائية جاذبة.
إن قصة (جميل) التي فاجأت بها الكاتبة شيخة الاحبابي المشهد الأدبي لليافعين في دولة الإمارات، غنيّة بالقيم، كما أن السرد جاء آسراً هو الآخر، ولمعرفة جانباً من غاية القصة وشيئاً من تفاصيلها التي توزعت على مدى 70 صفحة، كان لا بد من التوضيح أن (جميل) عنوان القصة، هو اسم الشخصية المحورية التي تقوم بدور البطولة، بموازاة شخصية محورية أخرى شبه رئيسية اسمها (آدم)، وهو الذي يقوم بدور الحكيم الناصح، صاحب التجربة والخبرة، والشاهد التاريخي على التحولات الاجتماعية في المدن والقرى الواقعة على التخوم. ولكل من الشخصيتين (كراكتير) – صفاته خاصة تتميز به، على أنهما – جميل وآدم – يشتركان في أن لكل عاهته الخَلقيّة التي ولد بها وعانى منها قبل أن يتعايش معها؛ فالأول جميل، يعاني من قصور في النمو الذي أثر بنيته وحجمه، فهو صغير جدا بحيث تصعب رؤيته من أول وهلة، لا يرتفع عن الأرض كثيراً، لكنه سريع الحركة، ويتمتع بمهارات استثنائية باهرة وهوايات متعدّدة، ساعدته على تدبّر حياته وشؤون معيشته، أما الثاني آدم، فيعاني من عمى البصر، لكنه رجل كامل البنية والعقل، ويتمتع ببصيرة نافذة وحكيمة جعلته مؤثراً في محدثيه وجلاّسه، كما انه يحظى بقبول عام لدى معارفه بين الناس.
تبدأ القصة أن جميل وبسبب من عاهته الخَلقيّة، عانى منذ بدء وعيه بالحياة من حوله من تنمُّر سكان القرية عليه؛ فتارة يرجمونه بالحجارة كلما لمحوه في مكان، وأخرى يسمعونه كلاماً جارحاً كلما صادفوه ماراً على مقربة منهم، ما جعله يحجر نفسه تجنباً للاختلاط بهم؛ فكان يختبئ في النهار ويظهر في الليل، كي لا يراهم ولا يتعامل معهم، صغاراً كانوا أم كباراً. وبمرور الوقت، تولدت لديه عقدة نفسية ألجأته إلى تنمية هذه العدائية ضد كل الناس، بدءا من أهل قريته، بمن فيهم أفراد عائلته لا سيما إخوته؛ فقد اعتزلهم باستثناء أمه؛ إذ كانت الوحيدة التي تغدق عليه من محبتها الكثير، وتبدي له حناناً منقطع النظير، وتهوّن عليه كلما بثها همهُ أو اشتكى لها أذى الآخرين. وهذه العدائية في نفس جميل بدأت مع مرور الزمن تتضاعف إلى أن جعلته يضمر الشر للعباد من حوله بلا استثناء، في القرية وخارجها وصولاً إلى المدينة التي لم تكن تبتعد عن القرية كثيراً. وجاء اليوم الذي قرر فيه تنفيذ خطته الشريرة التي كان قد وضعها مسبقاً وعلى نحو سري، لا يعلم بها مخلوق سواه، حتى أمه القريبة منه ما كانت تعلم شيئاً عمّا تأبطه جميل؛ فأول خطوة فيها أنه ابتنى سداً قطع به النهر الوحيد الذي كان يروي مزروعات القرية، لتذهب مياهه إلى مسارب أخرى .. إلى السهول البور البعيدة، فهلك زرع القرية وعطش ناسها. وتطورت الأمور فقرر تنفيذ الخطوة الشريرة الثانية وهي الانتقام من المدينة وسكانها؛ فقد أمضى أياماً يتجول في شوارعها، يراقب تحركات الناس، ونمط حياتهم، وسبل معيشتهم. في أحد منعطفات هذه المرحلة المتوترة بالنسبة لجميل، أعثرته عوامل شتى على آدم، الرجل الحكيم والأعمى البصير، الذي سيحدث الفرق في نفس جميل، ويغيّر من سلوكه، مستخدما الروايات والتجارب الحياتية والقصص والأمثال، وسّعت من أفقه، وهوّنت عليه من اشتعالات الضغائن في صدره. ولكي يكتمل المشهد، نقتبس تالياً وباقتضاب جانباً من الأحاديث الرئيسية بينهما – آدم وجميل:
– أراد جميل العلمَ هل آدم أعمى لا يبصره حقاً أم أنه يراه ولكنه يمثل دور الأعمى فطرح عليه سؤالاً:(هل تراني؟). ففزع آدم من ذلك الجهل، وكان يتساءل بينه وبين نفسه:(ألم أقل له إنني أعمى؟). ومن دون أن يبدي له آدم ما بداخله، أجابه بهدوء:(لا يا بني! أنا لا أرى، لقد ولدت هكذا).. ص 50.
هنا تبيّن لجميل أنهما الاثنان معاً يعانيان من إعاقة التي وحدت حالاً مشتركة. وأمر كهذا جعلهما يرتاحان أكثر لبعضهما بعضاً، ويشعران بشيء من الطمأنينة تشجع على الحديث من دون وجل، والانفتاح من دون حذر. نقتبس:
– وبعد أن رأى آدم جميل مهموماً ومضطرباً، تحدث معه بلطف ولين. قال آدم:(الحياة يا بني أرزاق، بعضنا يملك أشياء جميلة، وبعضنا لا يملكها، بعضنا أصحاء وبعضنا لا، بعضنا يمشي وبعضنا لا، بعضنا يزحف وبعضنا لا يبرح مكانه، لكننا جميعاً لم نأت إلى هذه الدنيا عبثاً، كل منّا له دور؛ قد يكون خيراً، وقد يكون شراً، والشر حدث طارئ يأتي لأسباب ويذهب بزوال تلك الأسباب، أما الخير فيبقى ويدوم؛ لأنه من الفطرة التي خلقنا الله عليها). وبينما كان آدم ينتظر تعليقاً من جميل على حديثه، فاجأه الأخير بطرح سؤال عليه سرعان ما أسعده: ما هو الخير؟ هنا أجابه آدم: (الخير هو الباب الذي تكمن خلفه السعادة، لا شيء يجلب السعادة كفعل الخير، فالخير هو أساس الحياة، وهو الذي يبعث المحبة، وينشرها بين الناس)..ص 51.
إن قصة (جميل) للكاتبة شيخة الاحبابي وإن كانت تزخر بالقيم الأخلاقية كما ذكرنا، فهي في الوقت ذاته تقرع جرساً كبيراً؛ فثمة تحذيرات تطال العملية التربوية في الأسرة والمدرسة، ونظرة المجتمع للآخر، بما فيهم من ولدوا بعاهات خَلقيّة لا يد لهم فيها، بل هي الأقدار التي حددتها، مثلما حددت الأرزاق والمصائر.
وعلى أي حال، فإن رسالة قصة (جميل) لشيخة الاحبابي جاءت ناضجة لجهة القيمة الأخلاقية والفنية والتطور الدرامي، ما يؤهلها الترشُّح لجائزة أدب اليافعين في الإمارات، فنحن على موعد مع كاتبة، إن استمرت، فسوف نقرأ لها في يوم قريب رواية جيدة، بل أذهب أبعد لأقول أن قصة (جميل) التي تدعو إلى التسامح واحترام الناس بمختلف أشكالهم وثقافاتهم قمينة بأن تدرج جهة الاختصاص في المناهج المدرسية.