صراع الإمبراطوريات وإعادة تشكيل العالم
د. فاطمة الصايغ – صحيفة البيان الإماراتية
منذ القدم كان الصراع بين الإمبراطوريات العالمية دامياً ودائماً من أجل السيطرة على العالم، وعلى مناطق الموارد الطبيعية والمنافذ الاستراتيجية. فلم تخل حقبة من الزمان من ذلك الصراع الذي سجله التاريخ كأحداث عالمية في سجل التاريخ الإنساني.
فمنذ عهد الإمبراطورية الرومانية والفارسية والعثمانية كان الصراع على القوة والسيطرة كبيراً بين تلك الإمبراطوريات ومنافسيهم على السيطرة على موارد القوة كالاقتصاد والمعابر الاستراتيجية.
كما كان الصراع دامياً بين إمبراطوريات أوروبا منذ العصور الوسطى. ويذكرنا الصراع الدائر الآن بين الولايات المتحدة وكل من روسيا والصين على اقتصاد العالم وعلى المواقع الاستراتيجية بين هذا الصراع وذلك الصراع الأزلي بين القوى العظمى التي كانت تحكم العالم.
الصراع الدائر الآن بين القوى العظمى كالولايات المتحدة وروسيا والصين يمكن أن ننظر له من منظور ورؤية تاريخية، خاصة على أنه صراع من أجل إعادة تشكيل العالم. فلم يعرف التاريخ إمبراطورية أو قوة عظمى اعترفت بأخرى منافسة أو حاولت التحالف معها، بل العكس فقد حصلت بينها منافسات دامية وصراعات عنيفة من أجل تشكيل العالم آنذاك وتحقيق السيطرة على الموارد الطبيعية في العالم. ومن أجل ذلك أيضاً يدور اليوم صراع عنيف بين القوى الكبرى التي تهيمن على العالم.
عبر التاريخ اختلفت الأساليب التي اتبعتها القوى العظمى للسيطرة على العالم، فكان لكل قوة أسلوب وطابع معين، بعضها اقتصادي والبعض الآخر عسكري ودبلوماسي.
ولم تقتصر السيطرة على الأساليب الاقتصادية، بل استخدمت بعض القوى المساعدات وتقديم القروض كأسلوب يمكنها من إيجاد موطئ قدم لها في أي منطقة من العالم، خصوصاً الدول الفقيرة والنامية.
إدارة الصراع تعتمد على الثغرة التي تنفذ منها القوة العظمى إلى منطقة المصالح.. وكما يبدو فإن مستقبل العالم الآن يعتمد على نتائج هذا الصراع والمنحنى الذي سوف يسير فيه. وفيما تمسك الصين بمفاتيح الاقتصاد في هذا الصراع تمسك الولايات المتحدة وروسيا بمفاتيح القوة العسكرية أيضاً.
وتهدف كل قوة إلى ترسيخ مصالحها والاستفادة من أي فرصة تسنح لها. أما فيما يتعلق بالمكان فقد نقلت القوى العظمى عبر التاريخ صراعها من مكان إلى آخر معتمدة على أهمية ذلك المكان من الناحيتين الجيوسياسية والاقتصادية.
فخلال القرن العشرين مثلاً، رأينا الصراع بين القوى العظمى ينتقل من مكان إلى آخر طبقاً لأهمية ذلك المكان. فمن أوروبا إلى الشرق الأوسط ومنطقة الخليج العربي إلى القارة الآسيوية وبلدانها النامية وحتى المضائق والبحار.
ولا شك في أن العالم ينظر إلى ذلك الصراع بقلق كبير. وأهم تبعات هذا الصراع بين القوى على العالم يتمثل في تقليص فرص التوافق بين هذه القوى في إيجاد الحلول لمشكلات العالم، بدءاً من الهجرة ومشاكل الغذاء والتغير المناخي، إلى قضايا الإرهاب والعنف التي تنتشر في العالم وتوفر بيئة خصبة وطبيعية للحروب والنزاعات. ويترتب على ذلك حالات من عدم الاستقرار العالمي وبؤر خطرة قابلة للاشتعال في أية لحظة.
من ناحية أخرى، يترتب على ازدياد الصراعات بين القوى العظمى سباقات التسلح النووي المهددة للسلم العالي. فزيادة التوتر بين القوى العظمى تخلق مجالاً واسعاً لانتشار التسلّح وبخاصة سباق التسلح النووي.
إن غالبية شعوب الأرض اليوم تشعر بالقلق نتيجة المنافسة المحمومة بين القوى العظمى على التسلح وحالات عدم الاستقرار وتعاني من النزاعات التي تعم العالم. فشعوب العالم جميعها تعيش في مركب واحد، وما يهدد دولة يهدد دولاً أخرى. ولهذا فإن الشعوب تنظر إلى تلك الصراعات العالمية على أنها تهدد السلم العالمي، وأنها وسيلة لنشر العنف والإرهاب.
إن شعوب العالم تأمل في أن تضع القوى العظمى يدها في يد البعض الآخر، وتتعاون من أجل أيجاد الحلول العاجلة لمشاكل العالم المستشرية كالفقر والجوع وانتشار الأوبئة والهجرة غير القانونية والتغير المناخي، وغيرها من القضايا التي تقلق الفرد العادي البسيط. فبدون تكامل الجهود وتكاتف الأيدي لن يتمكن العالم من إيجاد الحلول لتلك المشاكل.
هذه ليست أمنيات غير قابلة للتحقق، فقد شهد العالم خلال جائحة كورونا تكاتف الأيدي لإيجاد حلول لتلك الجائحة، ولولا التكاتف العالمي لإيجاد حل لما نجح العالم في تخطي تلك الأزمة بنجاح. إن العالم يترقب عن كثب مستجدات الصراع الدائر الآن بين روسيا والغرب حول أوكرانيا ويأمل في ألا تترتب على ذلك حرب عالمية أخرى.