عندما يتعارض الإصلاح مع واقع المجتمعات
الهاشمي نويرة – صحيفة البيان الإماراتية
تعرف تونس منذ ثمانينيات القرن الماضي، علاقات شدّ وجذب مع الجهات المانحة، خصوصاً صندوق النقد الدولي، الذي يمتلك وصفات جاهزة، يسعى دوماً إلى فرضها على الدول التي تعرف صعوبات اقتصادية، تدفعها عموماً إلى الانصياع لإملاءاته، التي عادة ما تكون ذات كلفة اجتماعية باهظة، قد لا تتحمّلها هذه الحكومات والدول.
ويمثل اللجوء إلى صندوق النقد الدولي، خياراً صعباً، لكنه ضروري لدول ومجتمعات تشتد أزماتها الاقتصادية، ولا يبقى لها من منفذ آخر، غير الرضوخ لبرامج الإصلاح التي تفرضها هذه الجهة المانحة، من أجل تمكين الدول الطالبة من القروض والضمانات الكافية للدخول إلى أسواق المال، والحصول على الحاجيات والتمويلات الضرورية لتأمين عمليات إنقاذ الاقتصاد من الانهيار، علماً بأن تونس لم تحصل على دولار واحد من 1992 إلى 2010.إنّ جانب الإكراه في التعاطي مع الجهات المانحة، هو الذي يدفع بالحكومات والدول التي تعرف صعوبات، إلى القبول بحزمة الإصلاحات المفروضة، رغم الكلفة الاجتماعية التي قد تثير انتقادات وغضب الشارع الذي لا يُرَدُّ.
وفي تونس، ارتبط اللجوء إلى صندوق النقد الدولي منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي، بأهم الحركات الاجتماعية التي أدت إلى صدامات مباشرة بين الحكومة من جهة، والاتحاد العام التونسي للشّغل (اتحاد العمال)، الذي يمتلك قدرة كبيرة على تأطير الشارع من الجهة الأخرى.
وفي تونس كذلك، كانت العلاقة بين الاتحاد العام التونسي للشّغل والحكومة، هي التي طبعت السياسات العامة للدولة، منذ بدايات الاستقلال، حيث كانت ذات طابع اجتماعي ترعاه الدولة، ويحميه الاتحاد العام التونسي للشّغل، وهذا العقد الاجتماعي، هو الذي ساهم في تأمين استقرار اجتماعي، لم تكن تنغّصه سوى الانحراف بالسياسات التي تفتح الباب أمام تدخّل الجهات المانحة، وعلى رأسها صندوق النقد الدولي، في خيارات تونس السياسية والاقتصادية.
إن الباب الذي يدخل منه الآخرون، ويفرضون شروطهم على الدول والمجتمعات، هو الأزمات الاقتصادية والمالية المستفحلة، وهي الأزمات التي تكون في الغالب نتيجة سوء السياسات والتصرّف والتقدير، أو هي بسبب استشراء الفساد، وبدرجات أقّل، تكون لضعف الإمكانات، أو ندرة الموارد الوطنية.
ولكل ما تقدم، فإن حسن التصرف في الموارد الوطنية، هو صمام الأمان ضد كل تدخل أجنبي، وهو الذي يقينا ما أمكن التدخلات المشروطة لصندوق النقد الدولي، وإن حسن التصرف هذا، لن يكون ممكناً، إلّا بوجود كفاءات وطنية حقيقية، تسهر على تسيير الشأن العام، ولا تدين بالولاء سوى لراية بلدها، وثانياً، بتوسيع الجبهة الوطنية الكفيلة بتقليص مجالات التدخّل الأجنبي.
وإنه من البديهي، الإقرار بأن تونس تعيش حالة غير مسبوقة من الأزمة، التي هي بالأساس نتيجة لتراكم سياسات وتصرفات اقتصادية عبثية، خلال كامل العشرية السابقة، التي تحكّمت فيها بالكامل حركة النهضة الإخوانية، وهو ما دفع صندوق النقد الدولي، إلى الترفيع في سقف طلباته، لتشمل ضرورة التفويت في بعض المؤسسات العمومية، والضغط على كتلة، ورفع الدعم عن المحروقات، وربما عن بعض المواد الأساسية الأخرى، ما يعني دفع الحكومة إلى التخلّي التدريجي عن دورها الاجتماعي التاريخي، أو التقليص منه، وهو توجّه نراه انتحارياً، لأنه لا قِبل للحكومة التونسية بتنفيذه، ولا يُمكنها بحال مواجهة أو احتواء الحراك الاجتماعي، التي سيكون الاتحاد العام التونسي للشّغل (اتحاد العمال)، مجبراً على مصاحبته ومساندته، حتّى يمكن له تأطيره والحدّ من انفلاته.
بات إذن من الضروري، أن تعمد تونس إلى القيام بإصلاحات عميقة، من شأنها أن تفتح باب الإنقاذ الاقتصادي، وأصبح كذلك من المؤكد، أن المواصلة في نفس النهج الحالي، سيؤدّي إلى إعلان إفلاس الدولة نهائياً، ولكنّ السؤال المطروح بإلحاح، هو: هل بإمكان الحكومة تحمّل تبعات هذا الإصلاح الاجتماعية والسياسية؟ وهل بالإمكان أصلاً القيام بهذه الإصلاحات، وتنفيذ شروط الجهات المانحة، دون تخّلي الدولة عن دورها الاجتماعي، كدولة راعية وحافظة للتوازن بين مختلف فئات المجتمع، وهل بإمكانها تمرير هذا المشروع، في غياب كامل لسياسة اتصالية؟.
يبدو من الصعب على حكومة الرئيس التونسي قيس سعيد، تحمّل ذلك، وهو ما يطرح تساؤلات عميقة حول الوجبات الجاهزة لصندوق النقد الدولي، إذ ما انفكّت تجارب الدول تؤكّد أنّ زمن الإصلاحات، قد لا يتوافق مع توقيتها، خصوصاً في الدول والمجتمعات التي بلغت فيها الأزمة حدّاً أثّر في استقرار المجتمع، أو تلك التي تعرف مؤسساتها مراحل انتقالية، نتيجة لتحوّلات سياسية جذرية.
ويبدو أن الوقت قد حان كي تعي الجهات المانحة، أن المغامرة بإصلاحات جذرية في هكذا ظروف، قد تكون نتائجها عكسية تماماً.