مغزى توقف أقدم صحيفة
عماد الدين حسين – صحيفة البيان الإماراتية
في الأول من الشهر الجاري، قرأنا خبراً محزناً يثير الشجن والأسى، عنوانه «أقدم صحيفة في العالم تتوقف بعد 320 عاماً».
تفاصيل الخبر تقول إن صحيفة «فينر تسايتونج» اليومية النمساوية، والتي تصدر من العاصمة فيينا، طبعت نسختها الأخيرة يوم السبت الماضي، والسبب أن المنتج المطبوع لم يعد مربحاً.
الذي حدث أن الحكومة اليمينية المحافظة، عدلت أحد القوانين، الذي تم بموجبه إنهاء الالتزام القانوني بأن تدفع الشركات لنشر الإعلانات العامة في الطبعة الورقية للصحيفة.
هذا التغيير أدى إلى خسارة في الدخل، تصل إلى 18 مليون يورو للناشر، وأجبر الصحيفة على تقليص 63 وظيفة، وتخفيض عدد موظفي التحرير من 55 إلى 20 فقط، وهؤلاء سوف يواصلون تقديم نفس المحتوى، ولكن عبر النسخة الإلكترونية، مع الأمل في إصدار طبعة شهرية.
هذه الصحيفة تملكها الحكومة النمساوية، ورغم ذلك، فهي مستقلة تحريرياً، وبدأت في أغسطس 1703، وشهدت مرور 12 رئيساً و10 قياصرة وجمهوريتين.
الطريف أنه في عام 1768، نشرت الصحيفة تقريراً عن حفلة موسيقية نجمها طفل موهوب بشكل خاص، اسمه وولفانج أماديوس موتسارت، وعمره 12 عاماً، وبالطبع فقد صار واحداً من عباقرة الموسيقى العالمية على مر العصور.
وطبقاً لصحيفة «الغارديان» البريطانية، فإن النسخة الأخيرة للصحيفة النمساوية الأقدم عالمياً، جاء فيها: «هذه أوقات عاصفة بالنسبة للصحافة ذات الجودة… على مزيد من المنصات، يتنافس المحتوى الجاد مع الأخبار الكاذبة، ومقاطع الفيديو الطريفة ونظريات المؤامرة».
هذه الصحيفة، وطوال القرون الثلاثة، توقفت فقط خلال الحرب العالمية الثانية 1939 – 1945، بسبب الاحتلال النازي للنمسا، وضمها لألمانيا، ثم عادت مرة أخرى.
بعد إغلاق الصحيفة النمساوية، فإن أقدم صحيفة موجودة ومستمرة حتى الآن، هي الصحيفة الألمانية «هيلد يشايمر الجمانيه تسايتونج»، التي بدأت عام 1705، أي بعد الصحيفة النمساوية بعامين فقط.
أعود إلى ما بدأت به، لأقول إن الخبر محزن، لأن أي صحيفة تتوقف، سواء كانت ورقية أو إلكترونية، أمر محزن لكل إنسان يحب الصحافة، ويعرف حقيقة دورها التنويري، وهو أمر مثير للشجن، لأنه يشير إلى المصير الذي ينتظر وسائل الإعلام، خصوصاً الورقية، إذا لم تتواكب مع العصر بكل متغيراته.
لكن من المهم، وبعد الشعور بالحزن والشجن والألم، أن ندرك أن هناك فارقاً كبيراً بين الوسيلة وبين المضمون. وسيلة الإعلام ليست مقدسة، سواء كانت صحيفة ورقية أو محطة تليفزيونية أو موقعاً إلكترونياً، أو مدونة أو صفحة على وسائل التواصل الاجتماعي، الدائم والثابت، هو الإعلام والصحافة والمحتوى الجيد، لأنه مطلب إنساني طبيعي، مثل الأكل والشرب وسائر الاحتياجات الإنسانية.
من حق العاملين في مهنة الصحافة والإعلام، أن يشعروا بالحزن والأسى، لتوالي توقف العديد من وسائل الإعلام لأسباب اقتصادية في الأساس، وأحياناً لأسباب تتعلق بضيق بعض الحكومات بحرية التعبير. لكن المؤكد أن مهنة الإعلام نفسها لن تتوقف أو تندثر.
قد تتوقف صحيفة ورقية أو محطة تليفزيونية، لكن حاجة الناس للخبر والتقرير والحوار والتحليل، ستظل مستمرة، وبالتالي، فإذا توقفت الصحيفة، فإن هذا الخبر سوف يصل للناس عبر أي وسيلة أخرى، سواء كانت موجودة الآن، أو قد توجد في المستقبل.
لم يكن أحد يظن مثلاً أن غالبية الناس لن تشتري الصحف الورقية، لأنها تطالع الأخبار عبر جهاز الموبايل.
كان البعض يزعم أن الإذاعة حينما نشأت عام 1921، سوف تلغى وظيفة الكتاب والصحافة، والتليفزيون سوف يلغي وظيفة الإذاعة والصحافة الورقية، وأن الإنترنت سوف يلغي كل الوسائل السابقة، وما نعرفه أن كل ذلك لم يحدث بصورة قاطعة حتى الآن.
صحيح أن الوسائل الحديثة تتقدم، وصحيح أن وسائل التواصل الاجتماعي بدأت تأخذ بعض وظائف الصحافة بالحق وبالباطل، لكن في النهاية، فإن وظيفة الصحافة نفسها لا تزال موجودة ومطلوبة، وستظل كذلك، بغض النظر عن الوسيلة نفسها.
ظني الشخصي أن أي صحيفة أو وسيلة إعلام، خصوصاً في العالم الثالث، تنجح في تقديم محتوى جيد وجذاب وحر ويهم الناس، سوف تنتشر، ويقبل عليها الناس.
ورغم كل ذلك، فإن وسائل الإعلام التقليدية لا تزال هي الأكثر دقة وموضوعية ومصداقية، مقارنة بوسائل التواصل الاجتماعي التي تمتلئ بمحتوى يصعب التفريق فيه بين الصحيح والمفبرك.